الفنان جمال العباس ورحلة الأربعين عاماً مع الفن ـــ حوار: عبد الرحمن مهنا

*التخلص من عقدة الأجنبي والشعور بالذات هي أساس الإبداع وخصوصيته عندنا.‏

*مؤثرات الفن الجمالية تساعد المجتمع وتحدث فيه تغييراً تقربه من جماليات الأشياء وفهمها.‏

*في الفن استيعاب للكل... ولا يستطيع أحد إلغاء الآخر... والمسألة أخلاقية.‏

*الفن هو حدث جديد لشيء غير مسبوق يحمل دلالاته وعناصر بقائه بذاته.‏

*النقد مسألة إبداعية وهو القدرة على اختراق الظاهر والتوغل فيما ورائه.‏

يقول عنه فاتح المدرس: "إنه فنان في تجواله الحيران بين الدفء والرقص والعاطفة التي استمدها من أهله في الجنوب السوري.. إنه حر كهذا الخط المتلوي بين السماء وعشق الأرض وبينهما الإنسان الذي هو رؤاه... إنه احتراق فيه رائحة الحليب على النار".‏

وجمال العباس كما وصفه الفنان الياس زيات، "مصوّرٌ عارك اللون حتى أصبح اللون طبيعته الثانية. واللون عند هذا الفنان ينادي بصوتٍ عالٍ محاوراً الشكل المرسوم ثم يتجه معه صوب المشاهد فيخبرانه عن حدث حصل فجأة كانفجار أو كلقاء غير منتظر أو كصرخة طفلٍ وليد".‏

وجمال العباس عدا عن هذا وذاك، فنان صادق اللوحة وصادق الكلمة المعبرة والناقدة فجمع بين الموهبة الفنية والمقدرة التربوية معلماً لأصول الرسم ومؤسس لمركز الفنون التشكيلية في السويداء وهو موجه اختصاصي للتربية الفنية في بلده السويداء، إضافة لمشاركاته العديدة والمتنوعة في المعارض الرسمية والخاصة، وكتاباته في الفن التشكيلي والنقد لا تقل أهمية عن فنه الذي صادقه أكثر من أربعين عاماً قضاها العباس مغترباً حيناً يبحث عن لقمة العيش وحيناً آخر مصطحباً معه لوحته يتجول معها في أصقاع الأرض وحواضرها.‏

مع هذا الفنان نتجول في عالمه الفني وفلسفته للفن مبتدئين الحوار، أنت قلت.. أستاذ جمال العباس "إن أعمالي هي قراءة في فنجان من البازلت. تتجذر في مكوناته معاجين لونية –تفصح بالرؤية المتمعنة-ما خلفها عن عالم الإنسان الذي يجاورها ويتعايش معها أثراً وتأثراً، وبالتالي يصبح التوجه نحوها مشروعاً فنياً وتسوغه ضرورة الإبداع، حيث الولادة الفنية لا قبل لها ولا بعد".‏

من هذه الرؤية لعملك الفني.. بداية نسألك:‏

*ماهو الفن من وجهة نظرك؟.. وهل الفن حالة عامة أم خاصة؟..‏

**الفن عمل إبداعي لا قبل له ولا بعد لمخلوق جمالي يكسب الحياة معايشة بطعم ومذاق خاصين، وهو جهد إنساني يعيش في منظومة الإنسان بشكل عام يتعاظم عند خواص لهم طاقة التوليد والعطاء بتمّيز عما عداهم، بمعنى أنه حالة عامة بدواعي الرقي عند الجنس البشري...‏

لأسباب التخليد أو ترك الأثر... لحركات أو أشكال أو إشارات أو رموز تدل على فعل صادر عن الحس أو الشعور بالفرح أو الخوف أو الذكرى كالمتروكات في المغاور والكهوف وهو خاص –مرة أخرى- عندما يترك بصماته الإبداعية الجمالية في كل مرحلة من مراحل التغيير والتنهيض والتحضير كعملية إبداعية ناضجة ومميزة من مبدع ناضج ومتميز.‏

*الغربة التي يعيشها الفنان في عالمنا المعاصر.. هذه حقيقة ما هي برأيك أسباب هذه الغربة؟..‏

**الطغيان المادي وسيطرة سياسة السوق على كل مناحي الحياة تقريباً أدى إلى تراجعات بالقيم والأعراف والمشاعر النبيلة فحوصرت الأحاسيس والوجدانيات أو انشغلت بمكننة الحياة وثورة العلم والتكنولوجيا فجاءت الإنجازات العلمية على حساب الإبداع اليدوي وما يحمله من الحاضن الحسي والمشاعري.‏

صحيح أن هذه الثورة العلمية والزمن المتسارع فيها حملت معها جملة من الإنجازات الفنية واشتبكت مع الإنجازات العلمية إلا أن الناتج ابتعد كثيراً عن الجماليات الدافئة وسحرها الروحي لذا كان على الفنان إما أن يستمر بنهجه ويعاكس التيار أو ينحرف معه بمبارزة مكشوفة الغلبة فيها للآلة والسرعة وغزارة الإنتاج، وفي كل الحالات صار الفنان غريباً في هذا العالم أو على الأقل مكسور الجناح.‏

هذا بشكل عام، لكن هناك غربة من نوع آخر في المجتمعات الأقل تقدماً أو النامية حيث الفنان ولأسباب كثيرة ما زال يشاهد لإثبات نفسه وفنه.‏

*ألا ترى معي أن أسباب هذه الغربة هي الفنان وإبداعاته وبعده عن ملامسة وجدان الآخرين؟..‏

**قد يكون هذا صحيحاً في مجتمعات مثل مجتمعاتنا حيث الثقافة البصرية شبه معدومة وتواجد الفن فيها مازال حديثاً فهو وافد على الرغم من أن الكثير من مفرداته تعيش بيننا أو أخذت من بلادنا. بوعي من الآخر ودون وعي منا.. فالفنان لا يزال يجاهد لنشر هذا الفن وتحويله في الحياة العامة إلى سلوك وتعامل لا من حيث المزاولة لأنها ستبقى حصراً في عدد محدود من الناس لخصوصية هذا الفن ومعادلاته الجمالية... أنا هنا أقصد ناحية التذوق الجمالي والثقافة البصرية وبتقديري: الغربة ليست في ملامسة وجدان الآخرين فالملامسة موجودة بالتأكيد لأن الفنان يعيش بين الناس وتعبيراته جزء من نتاج المنبت وتاريخه وجغرافيته مع حسبان الأثر الأوربي بحكم حداثة الفن وتأثرنا به.. المسألة ببساطة: أن في واقعنا جمالية متوارثة هي جمالية الشعر وحتى يتعود الناس على جمالية متوارثة. هي جمالية الشعر وحتى يتعود الناس على جمالية أخرى كجمالية التشكيل يحتاج الأمر إلى زمن ليس بالقليل، المسألة مسألة وقت..‏

أما في المجتمعات الغربية فالأمر مختلف عنا تماماً هناك العمل الفني الذي صار له تاريخ طويل وهو جزء من عملية النهوض الأوربي، صار اليوم محاصر من التحولات العلمية الهائلة... صار محاصراً من إبداعات الكمبيوتر والانترنت ورغم الانتشار ودخوله كل عوالم الحياة في هذه المجتمعات فإن الغربة الحقيقية التي يعانيها الفنان تتمثل في انحسار الذاتية وإبداعاتها المباشرة وبالتالي أقول عصر المدارس والاتجاهات الفنية.‏

*ماهي دلالات العمل الفني لوناً وتشكيلاً للوصول إلى العمل الفني الحقيقي؟..‏

**إن إدراك حقيقة الخاصية الفنية عند الفنان وتحصينها بسيولة الثقافة البصرية وتراكمات الإبداع العالمي والمحلي والجوار واستيعاب المعادلات الحضارية لكل الحضارات البشرية والأنشطة الفنية منذ الإنسان البدائي وحتى اليوم، والحس بالانتماء الحقيقي للمنبت من خلال الثقة بتاريخ المنبت وجغرافيته والتخلص من عقدة الأجنبي والشعور بالذات الوطنية وتعزيزها كفيل بفهم وتمثل سيكولوجية الألوان وقدرتها على التفاعل مع سيكولوجية الفنان وطاقة التوظيف لديه استشعاراً بالقرب والبعد، بالجوهر وحركة المردود فيه خارج سطح المساحة وبالتالي ستكون النتيجة تمثل العجينة اللونية واشتقاقاتها بالتجاور أو بالتمازج أو التلاقح.. ستكون الألوان دسمة بتحليلاتها ومؤثرة بشبكات المفردات الأخرى تأخذ وتعطي بالقدر الذي ترسمه تشكيلات الفنان وإيقاع أدواته وتفردها.. فاللون والتشكيل ساحتين أساسيتين لإبداع الفنان ومردود ولاداته، وعليه يمكن القول وبثقة إن كل ما ذكرته في البداية مضافاً إليه حركة الرسم والتشريح كغذاء يومي للفنان كفيل بالوصول إلى عمل فني حقيقي.‏

دخلت ساحة النقد التشكيلي لأن شيئاً ماكان يتمور في داخلك وهذا الشيء الذي دفعك لتمسك قلبك وتكتب بالنقد. هل تستطيع تحديد ذلك الشيء؟..‏

**أثناء خدمتي العسكرية في الإدارة السياسية وجدت نفسي رئيساً للمكتب الفني بين مجلة الشعب ومجلة الجندي أغطي الأخبار الفنية التشكيلية. تطور ذلك إلى متابعة معارض الفنانين وتقديمها وصفياً ثم دراسة تحمل رؤيتي الخاصة بهذا المعرض أو ذاك توسعت وامتدت لتصل إلى بعض الصحف المحلية مثل الثورة والبعث، ولاشك أن وراء ذلك رغبة ما لعل أهمها إحساسي بعظمة هذا الفن ومؤثراته الجمالية وضرورة أن يصل إلى الناس عله يساعد في إكساب المجتمع مسلكاً جمالياً جديداً يغيّر الكثير من الواقع المعاش وصولاً للأفضل، كما أنني لاحظت في تلك الفترة (فترة السبعينيات) أن الساحة خالية تقريباً من وسطية نقدية بين الفنان والمتلقي تسعى إلى التبسيط والتشويق، يكون فيها المتلقي هدفاً وغاية.‏

*إلغاء الفنان الآخر في نظر البعض هو تأكيد على قصور ما نعاني منه في الوقت الذي ندرك فيه أن الفن يستوعب كافة المجالات الإنسانية والتذوق لدى الناس ولا يستطيع أحد إلغاء الآخر لأن لكل فنان متذوقيه.‏

هل أنت معي في ذلك ولماذا؟‏

**في الواقع أنا لا أفهم كيف يمكن لفنان أن يلغي فناناً آخر طالما أن مفهوم الفن والفنان لا يختلف عليه اثنان إلا في حالة ازدواجية الشخصية وهذا مرض دون أدنى شك أو ادعاء بالفن يقوي من سطوته قوى لا علاقة لها بالفن ولكنها تقود ساحته وتتعامل معه بسياسة السوق ومضارباته دون إدراك أن الفن فن ولكل فنان شخصيته الفنية اتجاهاً وتذوقاً.. المسألة باعتقادي أخلاقية ليس غير، تتعلق بغياب التقييم والتقويم والمحاسبة.‏

*كيف تفهم الإبداع في الفن والنقد؟..‏

**أفهمه على أنه ولادة لمخلوق أو شيء أو عالم لا قبل له ولا بعد، أو إضافة لجديد غير مسبوق يحمل دلالاته وعناصر بقائه ومؤثراته.‏

وفي النقد تتجلى المسألة الإبداعية بقدرة الناقد على اختراق الظاهر والتوغل فيما وراءه وصولاً إلى الجوهر ومحسوساته تدعمه ثقافة بصرية وتراكم معرفي بالخط واللون والمساحة والطول والعرض والرسم والتشريح والإنسان والتاريخ والجغرافيا والبيئة والنشور والترقي وحركة الأشياء وطبائعها.‏

وتتجلى أيضاً بفهم وإدارة المفاتيح التي نستخدمها وصولاً إلى المتلقي: الجانب الأهم في العملية النقدية.‏

هذا بشكل عام ودون إغفال للمعاناة والمصاعب والمعوقات فالحديث عن ذلك يطول ولا تدخل في سياق السؤال المطروح.‏

*المحطات المهمة في تجربة جمال العباس.‏

**تجربة طويلة امتدت لأكثر من أربعين سنة بداياتها قبل دخولي وتخرجي من كلية الفنون الجميلة (1965 -1969) ومازالت مستمرة ولابد وأن تكون حافلة بالتجارب والمواقف ولابد أن تكون قد فرزت جملة من المحطات المؤثرة أو التي شكلت منعطفات هامة في هذه التجربة أذكر منها مرحلة أو محطة مابعد التخرج ومعارضي الرسمية فيها (معارض السبعينات) حيث الأعمال كانت تجمع لمخزون تجارب جاءت معي إلى كلية الفنون ومكتسب الدراسة الأكاديمية في توجه قومي ووطني كانت كل المنطقة تحيا به وتعمل من أجله وإلى جانب هذا كان أساتذتي يحيطون هذه التجربة بالحب والرعاية، كانوا أول الزائرين وأول المهنئين فكانوا قدوة في صدق التعامل وصدق التوجيه.‏

وبعد عشر سنوات أي في الثمانينات كانت رحالي تشد إلى الجزائر التي حلمت بها مدرساً معاراً للتربية الفنية وهناك شهدت تجربتي فيضاً من النتاج حيث كان الوقت ملك لي والإحساس بكل ما يحيطني فياض.. كان كل شيء أراه جميلاً فانعكس هذا على أعمالي فأقمت هناك العديد من المعارض وما سمعته من ناحية التقويم أثلج صدري وجعلني لأول مرة أدخل عمقي وأتحسس عوالمه لوناً وشكلاً وتكويناً وموضوعاً كان فيه للمكان والزمان والتاريخ والمشاعر الأثر الأهم في صياغة إطار هذه المحطة ومردودها.‏

كانت إقامتي في الجزائر لست سنوات وما رافقها من زيارات اطلاعية لفرنسا وإسبانيا واليونان نقلة هامة في تجربتي الفنية التي مهدت وبعد عقدين من الزمن لتجربة تبحث في خفايا النفس البشرية بتعبيرية أقرب إلى التجريد لم يعد فيها اللون هو مقدمة اللوحة وباني ركائزها الأولى بل صار مفردة تتشاغل مع مفردات أخرى وهي المحطة التي أقف عندها الآن وأتعمق في ولوجها وإشباعها بالصورة التي أسعى إلى التوحد معها وتلقي انعكاساتها.‏

*هل أنت مع الأسلوبية الواحدة في إبداع الفنان؟ وهل الأسلوبية تراها كما أراها أنا تحد من فتح آفاق جديدة في عالم الفنان ورؤيته للأشياء.‏

**أنا لست مع الأسلوبية الواحدة ولا مع تعدد الأساليب عندما تكون هذه أو تلك تسير في عكس تيار الذات وحسها الحقيقي بمعنى أن الناتج الفني سيكون مسبق الصنع يخضع لشروطات مفتعلة يتهاوى مع الأيام أو تطحنه تعدد الموضات والتسابق في عروضها.‏

الأسلوبية الواحدة أو المتعددة لا تعني –باعتقادي- التشابه في سطح العمل أو التحالف فيه بل تعين العمق وحركته ومخزونه التأثيري، ويبقى المهم والهام في العمل الفني قوة الطاقة المتحركة ومداها الجمالي المؤثر والمعبر والقادر على فتح آفاق جديدة في رؤية الأشياء عند الفنان والمتلقي.‏

بقي أن أقول وبشكل تلقائي ودون سؤال واستناداً إلى واقع الحال في مجتمعاتنا العربية وهو واقع لا يُرضي قياساً إلى مجتمعات سبقناها بالاستقلال ولكنها سبقتنا بالنهوض، أريد أن أقول منذ بداية الوعي عندي وحتى اليوم أسمع وأقرأ أن أمتنا ديوان شعر أو أمة شعر أو أمة كلام أو ظاهرة صوتية، وأعتقد أن نتاج ما وصلنا يؤكد ذلك... آن الأوان –ودون التقليل من شاعريتنا وهي طاقة –أن نسعى في سياق التغيير إلى إفساح المجال أمام الفنون الجميلة والمسرحية والموسيقية والعلم والاختراع، على هذه الجماليات تنهض بهذه الأمة من كبوتها وتراجعاتها المستمرة وتصبح أمة ديوان علم وفن وتأمل وإنجاز... أمة ورشة عمل دائم لا وقت فيه للتصفيق والهتاف والوجاهة..‏


منقوول
http://www.awu-dam.org/esbou1000/1031/isb1031-030.htm